أجمل نساء العالم

اجمل نساء العالم

--------------------------------------------------------------------------------



نظرت إلى الصورة، سرقني المشهد، لأصير جزءًا من معركةٍ بين كلبٍ مفترس أطلقه جنود الاحتلال في قرية العبيدية خلال حملة اعتقالات يهاجم فيها الكلب امرأة تدعى "يسرى ربايعة"، تصاب بالفزع والجروح، ترقد الآن على سرير المستشفى مملوئةً بالرعب والخوف والأسئلة العنيفة.

ونظرت أبعد من ذلك إلى 120 اسيرةٍ يقبعن داخل سجون الاحتلال، من بينهن 31 أماً فلسطينية يرزحن خلف القضبان، ينسجن آلامهن على حبل الانتظار، يصارعن الحديد والسيف ويحتفلن في صدى الوجع بعيد الأم بلا إيقاع طفلٍ يعلن اللقاء بين الحب والحرية.

الصورة عطشى إلى معنى، ورسالة الأسيرات المعزولات منذ سبع شهورٍ في "الجلمة" و"الرملة" تفوح بجفاف الأنثى والأرض والقرار، تبحث عن قارئٍ يفهم العلاقة بين الزنزانة وضوء الجسد، في حكايةٍ يذوب فيها الراوي والمروي والزمن المالح في ذاكرةٍ لا تصرخ.

هن أجمل نساء العالم، المعلقات على هواءٍ ساخنٍ خلف سبع ظلماتٍ وسبع أبواب...الساحرات الفاتنات فكرةً ويقيناً...المتصوّفات في معبد العتمة يرصدن طلوع الفجر من الجرح، وهبوط الليل على عينين من عسلٍ وبحرٍ وقمحٍ وأناشيد إلى هناك.

أي جلادٍ هذا الذي يستطيع أن يحرس أنثى تضع مولودها في السجن، تفيض حياةً وتستدعي كلّ طقوس العالم للاحتفال بالمولود وبالموج وبضوء القمر.

أي داهيةٍ يجنّد كلّ هذا العتاد الحربي لاسقاط امرأةٍ عن فرسها، يخنقها في السجن، يرشها بالغاز، يربطها بالجنازير، يمحو جمال وجهها، يصلبها إلى الليل والحائط والفراغ، فتخونه الحبكة، وتخدعه الخرافة بعد أن يسمع صوت الماء هنا وصوت المطر.

الأمهات الأسيرات احتفلن بعيد الأم، صور أطفالهن معلّقةٌ على حائط السجن، أطفالٌ يبتسمون، يمدّون أياديهم، تخرج من الحائط، تتصافح الأيدي وتتعانق الأشباح، ولأول مرّة يترك السجّانون مفاتيحهم ويغادرون السجن بحثاً عن تلك المسافة السحرية بين الأم والوطن.

هن أجمل نساء العالم...يدٌ توزّع الورد وأخرى تفك الأغلال...يمشطن شعرهن على الحديد وتحت سماءٍ مقيّدة، يغتسلن بالأزرق والفرح.

لعلّ وجع الوعي للأنثى الأسيرة يدفعها إلى جمع كلّ علامات القمع عن جسدها لكتابة قصيدة غزلٍ إلى أي أميرٍ أو بطل، قد يأتي بعد قليلٍ يطلّ من خلف الجبل، قد يأتي على شكل حمامةٍ حاملة سلاماً حقيقياً، بيضاء تضيئ هذا الأسود الحالك، وتعيد الأمل.

قد يأتي من يفك الغموض ويفتح بوّابات العدم، ينهي رحلة القهر ويعلن أن القادم دولةٌ وسيادة وحرية وليس جنازات...يفكك الرموز عن الواقع، لا يسبح في الشكليات ولا يتعثّر بالكلمات.

مائةٌ وعشرون اسيرة واحتفالٌ بعيد الأم بلا هدايا وشموع وزياراتٍ عائلية، هو احتفال الهوية العطشى بالأماني، وصعود الخيال إلى سخاء الحنين وذوبان المشاعر في البطولة.

تمنّيت أن اقرأ ما كتبته الأسيرات "سعاد نزّال وآمنة منى وعبير عمرو وسونا الراعي وقاهرة السعدي" أمام جلسة منح الثقة لحكومة الوحدة الوطنية، لكن الطفل "براء"، الأسير الصغير منعني من ذلك، قفز من بين السطور وقال: لا تقل كلاماً معصوماً من بلاغة المنتصر، وانتظر حتى تفيق أمي من نص الحرية الغائب.

تمنيت أن ابكي على أبي رفعت، ويشاركني كل النواب لمدة 25 دقيقة في البكاء، أن لا يمرّ البرنامج وسحر الكلمات بلا وداع.

كان أبو رفعت يجلس معنا، ينتظر من يحمل التابوت، يغسل جسده بالياسمين والحنّون، من يزغّرد قليلاً قبل ان يغيب في التراب.

لم يتوقّع أبو رفعت أن يغيب مرتين، مرّة في السجن لمدة ربع قرن، ومرّة من احتفال شكليّ يعلن أنه كان يملك ذاكرةً مشبعة بصورنا.

سقطت أم يحيى السنوار وأم نائل البرغوثي وأم مروان البرغوثي، أطفئن شمعةً على شبك الزيارة وغادرن بلا رجعة، ولا زالت أم ناصر حميد تحمل ثماني صورٍ لأبنائها: واحدٌ شهيد وسبعةٌ خلف القضبان.

أمهات خجلت الأسطورة منهن، وتحايل الواقع على فرحهن الاستثنائي